آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 10:41 م

الجندر ومنظومة المجتمع الإنساني

طالب عبد الحميد البقشي *

لا يزال الجندر يشكل مفهوماً جديدا على الأسماع في عالمنا العربي، بالرغم من تسويق المجتمع الغربي له باهتمام بالغ، إلا أن لغموض أطروحته الاجتماعية لم يلاق رواجا لدى غالب شرائح المجتمعات العربية، وتجد أن هناك عدم وضوح في ترجمة وتعريب هذا المصطلح فأحياناً يكون المرادف لكلمة Gender هو النوع الاجتماعي أو الجنس الاجتماعي أو الدور الاجتماعي أو الجنس البيولوجي.

ويعرف أن مفهوم الجندر مشتق من أصل لاتيني من اللفظ «genus»، وتعني في القاموس اللغوي الجنسَ، وانتشر الجندر بمفهوم النوع الاجتماعي في الغرب في القرن التاسع عشر من خلال ثلاث موجات نسوية التوجه ظهرت في أميركا الشمالية، ومن ثم انتقلت إلى أوروبا الغربية العام 1988 م، حيث طالبت النسويات بالمساواة بين الرجل والمرأة في الواجبات والحقوق.

وفي منتصف القرن العشرين استخدمت مفردة الجندر للإشارة إلى الحالة الاجتماعية القائمة على التنشئة والتلقين بأنَّ هذا ذكرٌ وتلك أنثى، بينما الجنسُ يشير إلى الاختلافات البيولوجية.

وعرّفت الموسوعةُ البريطانية الهويةَ الجندرية بأنَّه شعورُ الإنسانِ بنفسه كذكرٍ أو أنثى، ولا يرتبط فيها شعورُ الإنسان بخصائصه العضوية، وبحسب التفكير الغربي، فإن الهوية الجندرية ليست ثابتةً بالولادة ذكراً أو أنثى، بل تؤثر فيها العواملُ النفسية والاجتماعية بتشكيلِ نواةِ الهويةِ الجندرية، وهي تتغيرُ وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كلما نما الطفل.

وظهر المصطلح لأول مرة في وثيقة مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994 م في 51 موضعاً، ثم أثير مرة ثانية في مؤتمر بكين للمرأة عام 1995، وذكر المصطلح 254 مرة دون تعريبه، وجاء المصطلح في المادة الخامسة من سيداو مطالباً في هذه المادة بتغيير الأنماط الاجتماعيَّة والثقافية لدَور كلٍّ من الرجل والمرأة؛ بهدف تحقيق القضاء على التحيُّزات والعادات العُرفية.

ويعد الجندر أحد أحدث المشاريع الاجتماعية لمنظري الغرب، وتشمل حزمة من تحديث هوية المجتمع وتغيير التقاليد والعادات والأعراف الاجتماعية الأصيلة المرتبطة بالعلاقة القائمة بين أفراد الأسرة في المجتمعات الإنسانية السائدة منذ قرون متطاولة وإيجاد أنواع جديدة للأسرة.

ويستهدف هذا التغيير في الدرجة الأولى تحديث بنية العلاقات والروابط الأسرية وتغيير توزيعَ الأدوار بين الرجل والمرأة والقضاء على التمييز ضد النساء كما يراه علماء الاجتماع في الغرب والمطالبة بمساواتهن بالرجال في الحقوق، إلا أن الطرح المعاصر للجندر والنموذج المطبق في الواقع يعلي الجانب غير الأخلاقي وغير الإنساني لتحقيق منظومة اجتماعية تبيح المثلية والشذوذ والزنا، وتلغي الأسرة وترفض الاختلاف بين الذكر والأنثى، بينما المنظومة الاجتماعية الإسلامية تؤصل لعلاقة التكامل والتعاون، وتؤكد على التسامح في تقاسم الأدوار بين الرجل والمرأة بحسب متطلبات الحياة وظروف المعيشة.

لذلك العقل الغربي في إطار مفهوم الجندر يؤسس لأنماط جديدة للأسرة كما ذكر في كتاب ”الأسرة وتحديات المستقبل“ بإنَّ الأسرة يمكن تصنيفها إلى 12 شكلاً ونمطًا، ومنها أُسر الجنس الواحد؛ أي أُسر المثلية «الشواذ»، وتشمل أيضًا النساء والرجال الذين يعيشون معاً بلا زواج، والنساء اللاتي ينجبن الأطفال سفاحاً، ويحتفظن وينفقن عليهم، ويطلق على هذا التشكيل اسم الأسرة ذات العائل المنفرد، وتسمى الأم بـ «الأم المعيلة».. وهذا التغير في شكل الأسرة يعني فيما يعنيه ضمن النسق الجندري تغيير الأنماط الوظيفية المعهودة للأب والأم في الأسرة.

وحينما يتم التأمل وبحث أفكار الجندر الاجتماعية التي من ضمنها المواساة بين المرأة والرجل في الأدوار، فإننا نلاحظ أن العلاقة تركز على التماثل والندية في الأدوار بين الرجل والمرأة، وليس كما هو سائد في المجتمع الإنساني من بناء العلاقة على تكامل الأدوار؛ مما يترتب على مفهوم ”الجندر“ إشعال العداء بين الجنسين وكأنهما متناقضان ومتنافران وعليه يُزج بالجنسين في صراع إثبات الذات والتخاصم بشكل متفرد متمحور حول تحقيق الغلبة.

هذه النظرة التي من خلالها شكل «مفهوم الجندر» نجدها خاصة بالدور الاجتماعي والثقافي، وليس بالتقسيم البيولوجي الذي لا يمكن تجاوزه أو تغييبه لتمرير أفكار معينة ترغب في مساواة مطلقة بين الرجال والنساء ليس لها ضوابط ودون مراعاة للفارق البيولوجي وما يتطلبه من المجتمع الذي يرغب استثمار جهود النساء والرجال بما يلائم الطبيعة البشرية ومتطلبات المعيشة مبتعداً في بناء المفهوم الجندري عن أصالة المنفعة للمجتمع.

والمتابع لتطور مفهوم الجندر يجد مدى التعاطف والدعم الذي تكنه ثقافة الجندر للمثليين، وترويج مفهوم «الطبيعي» على جميع العلاقات الغير سوية، وكل ذلك يعود لتناقض المثقف الغربي في طرحه المستجد للقضايا الاجتماعية والثقافية فتارة يجرم المثلية، ويعاقب عليها وتارة يسن التشريعات المدنية بمسمى الجندر، ويبيح المثلية والممارسات الشاذة كنمط أسري بديل عن الأسرة التقليدية.

ويسعى العقل الغربي على ترويج وفرض رؤيته لمفهوم الجندر في الأوساط العربية، لا سيما أن المجتمع العربي حمّال أنساق اجتماعية وثقافية مختلفة، فإذا تفشى المفهوم في نسيج المجتمع العربي، ودخل المجتمعات النسوية دون وعي بما يشكله هذا المفهوم من تأثير مباشر في الإخلال باستقرار الأسرة وبشكلها المتناسق في وظائف أفرادها وتماسكها؛ مما ينذر بتفكيك الأسرة التي تعدّ النواة الأساسية للمجتمع الفاضل.

لذلك المفهوم الجندري أدى لرفع معدل التحرش والتعدي على المرأة في المجتمعات الغربية، وأفرز تزايد معدل الجريمة، وأيقظ الغرائز الجنسية لدى الأطفال حديثي السن وهم في طور التنشئة من ذلك فإن استعجال العقل الغربي في تبني أي فكرة أو نظرية تطرح من باحث اجتماعي أو كاتب في العلوم الاجتماعية المستجدة التي تحاكي تطور ما، وتدور في فلك الحداثة وتطبيقها في المجتمع بلا إخضاعها للدراسة والبحث في نتائجها الاجتماعية والقانونية، فإن النتائج تتسبب في انحدار المجتمع.

لاسيما أن تطبيق المفهوم الجندري في المجتمعات الغربية إحداث ثغرة في قانون الأحوال الشخصية المدني فلا يمكن إثبات الصفة الشخصية والقانونية لمزدوج الميول الجندري الذي يرى الفرد نفسه ذكر وأنثى في آن واحد، ويتسبب في إرباك تطبيق العقوبة القانونية على الذكر الذي يرى أنه أنثى لميوله الأنثوية الجندرية، ثم يتعدى ويرتكب جريمة الاغتصاب للأنثى.

فإذا كان تطبيق نموذج الجندر قد فشل في وقتنا الحالي في المجتمع الغربي، وأدى لإحداث فوضى اجتماعية وأخلاقية في الثوابت الاجتماعية، فقد اعتاد المجتمع الإنساني على نسق الأسرة التقليدي وتراتب أدوار الزوج والزوجة بما يتكفل مبدأ التعاون وتكامل الأدوار، إلا أن الجندر لا يبحث عن الأفضل في الممارسات الاجتماعية الإنسانية المثلى ليعيد تشكيل المجتمع البشري بما يخدم الإنسانية وإرساء القيم الفاضلة.

لذلك فإن هناك قناعة راسخة في أزقة مثقفي الغرب بأن الجندر بطرحه المعاصر لا يزال يخضع لمخاض تصحيح هذا المفهوم، ويتعالى سجال بضرورة إعادة صياغة أطروحته الاجتماعية الجندرية، فمن دواعي الوعي ما سوف يفرزه الجندر من تصدع المجتمع وتوقف نمط الأسرة بالصورة التقليدية التي عهدناها والسائدة في المجتمع البشري، والتي تتكون من أب وأم وأبناء وبتالي توقف التناسل وظهور أجيال جديدة من أنماط الأسر التي ترتكز علي رابطة من العلاقة الجنسية الشاذة وحسب بلا مراعاة ما يفرزه الجندر من أصابت المجتمع بالأمراض الجنسية المميتة وأعباء التكاليف العالية في معالجة المصابين بالأمراض الخطرة.

والجندر قد يؤثر في الأجيال المعاصر في المجتمع الإنساني الكبير، ويؤدي إلى إضعاف المؤسسة الأسرية لاسيما مجتمعنا العربي فلا عجب أن ترى في وقتنا المعاصر معدلات نسب الطلاق تتزايد يوما بعد يوم، وربما يتعاظم التأثير في الجيل القادم.

والمنظومة الإسلامية ضمن رؤيتها الاجتماعية تبني العلاقة بين الرجل والمرأة على أسس من القيم التي تتلاءم مع الطبيعة البشرية من الترابط والتراحم والمودة، وتراعي الفروقات البيلوجية في توزيع الأدوار، وتقارب حفظ الحقوق والواجبات لكلاهما، وتعمق المبدأ الإنساني بينهما.