آخر تحديث: 2 / 12 / 2024م - 10:09 ص

ألق المراسي أيها الربّان.. حَدَثٌ وحَدِيْتٌ ”53“

عبد الله أمان

تَتوارَد وتَتراوَد رَدَحًا، صَيحاتُ ونِداءاتُ أصداء المَقُولاتِ الوِجدانيةِ الحَمِيمةِ، بين طَنينِ مِطرقةِ التخلِيد، ورَنينِ سِندانِ التجمِيد ”ليفُوز عَالي نسقِ ذبذباتِ ُضَجِيجِها المُتناميةِ، بقَائم قَصبِ أيقونةِ السّبق النابتة زَهوًا، في قبضةِ يَمينِ هِمّةِ المُهرولِ النشِطِ المُنطلقِ، في زَحمةِ السباقِ الماراثُوني العتِيق، الذي استُهلّت صَفّارةُ انطلاقتِه، منذُ بِضعةِ قُرونٍ مَضَت… فَها هِي“ صَولةُ وجَولةُ ”جعفر بن مُحمّد، المعرُوف“ بأبي البَحر الخُطّي ”الشاعر البحريني - القطيفي، المُغرّد الجَهبذ، وقد مَخَر عُبابَ البحرِ جَوبًا، في جَوفِ“ سَمبُوكِه ”الأنِيق، بحثًا عَن جَواهِرَ كُنوزِه المُخبّأة في أعماقهِ يَومًا، ويومًا آخر بات يَستنشِقُ مُترقبًا، بعفويةِ نَسيمَ عَبقِ البحرِِ المُنعشِ، باسترخاءٍ واستلقاءٍ؛ ويَستعرِضُ مُستأنِسًا، باجتِذابٍ وافتِتانٍ؛ ويَستشرفُ وَالِهًا باصطِبارٍ واعتِبار، أسرار مُفاجاءات البحرِ؛ ويَستكشِف بِطانةَ كُنهِ دَيجورِ غَدرِه الدّفِين؛ ويتأمّل مَليًا باطنَ زُرقةِ جَذبهِ المُمتزجةِ انصِهارًا، والمُتماهيةِ انسِجامًا، مع ذائقةِ اللّثمِ الحمِيم، ودَيدَنِ إهداءِ القُبَلِ الحارّةِ، لشُعاعِ الشمسِ الساقطِ على خَدّي مِرآة سَطحِهِ الصقِيل العاكِس؛ لتُدُغدِغ برِفقٍ حَانٍ جُلّ مشاعرِ الشاعرِ المُرهفِ النِّحرِيرِ… بعد أنَ أضرَمت حَاضرَ مُهجتُهِ هُيامًا مُتأجّجًا: غِيابُ واحتجابِ حَاضرةِ البحرِ، عَن ناظِريه؛ وأضناهُ طُول وَعثاءِ رِحلةِ السفر؛ ليَتُوق سَاعةً، ويَشتَاق يَومًا، إلى سَكِنَةِ فسيح عرَصة وَاحةِ الشاطئ القريب، ويهنأ بمَا يُداعِب حُلمه القديمِ مِن فائقِ سَعادةٍ، ورائقِ هَناءةٍ؛ وقد ألهبَت خُضرةُ نَخيلِ واحةِ القطيفِ الدانيةِ، بوارفِ فَيءِ بساتِينها المُزهِرة، مُخيّلة وِجدان الشاعر الخطّي؛ ليتساءَل، بأنفاسٍ والهةٍ مَحبوسةٍ، صَفّ أعوانِه البحّارة، مِن حَوله؛ ليُخبرُوه، بأنّ أطيافَ الواحةِ القريبةِ الفاتنةِ… هِي طلّةُ حَاضرة“ القطِيف ”الخضراءِ الجاذبةِ... عِندها، لن يُسيّطر ويَتمالَك الشاعرُ كَتمَ أنفاسِه الجيّاشة؛ ليبُوحَ - مُفضِيًا مُعرِبًا - بديباجةِ قَصيدةٍ عَصماءٍ، وقد رُشّت وعَمّت وفاحَت مِنها رَوائحُ البَخُور؛ وضَاع بين أبياتِها العبِقة عِطر المسكِ المُتسلّل أريحيةً؛ وانتشرت في أرجاءِ الشاطئِ العَسجدِي القريبِ، أندَى مَباهِجَ الفرحِ والسرورِ، مَع زخم هبّات النسيم العلِيل، ليشدُو مُبتهجًا مُنشرحًا: «قالوا“ القطيفُ" فقلتُ غايةَ مَطلبِي… أَلقِ المَراسِي أيُّهَا الربّانُ!».

وتَتوافدُ أحلَى لفيفِ الصور ”البحرية“ الجاذبةِ المُتداخِلةِ، على أحدثِ نظام رقَمي، تبثّه - بزخمِ ونغم مُتوارِدين، تَقنيةٌ فِيزيائيٍّةٌ ”مُتلفزةٌ“ مُباشرةٌ لمَلايين الخلايا، ومِثلها الوَصلات الدماغية النشطة، أمام أجدّ شاشاتِ عرضٍ على مِنصّاتِ الحواسِ اللّاقطةِ؛ لتكشِف فُجأءةً عَن مَتنِ صفحاتِ ”ألبومٍ“ مُشرقةٍ سَاطعةٍ، لصُورِ مُثيرةٍ، مِن سَالفِ مُقتطفاتٍ ومَناظرَ قديمةٍ، وقد أكل عليها سَابق الدّهرِ وشَرِب… تلك المناظِر المَمزوجَة النابضَة بوجعِ الألم، المُتسلّلِ مِن حَنايا الضلوع، والمُنسابةِ آلامها خِلسةً، مَع حَرارةِ الدّموعِ الساخنةِ، المَسكوبةِ في اتّساعِ المآقِي… يلتقي قائمُ حَراكِها القارِص، أمامَ استقامةِ صُفوفِ البحّارة المُتطوّعين، لاقتحامِ لُجِةِ البحرِ الغادرِ، في مهنةِ ”الغُوص“ التراثِيةِ القاسِيةِ؛ لاصطياد أصداف اللؤلؤ، التي باتَت مَصدرَ رِزقٍ حَلالٍ لصفٍ مِعوزّ، مِن صُفوف الآباءِ والأجدادِ الأماجِدِ، وقد أضناهُم شظفُ العيشِ، وألزمهُم فقرُ الحالِ، إلى الإقدامِ المُستسلِم التامّ، لرُكوبِ صِهاء البحرِ، وكَسبِ الرزقِ الحلالِ... فها هِي كَوكبةٌ مِن الرجالِ الأشدّاءِ، مِن ذوِي البشرةِ السمراءِ، والسواعدِ المفتُولةٍ، قد عَزموا الأمر؛ وأَعَدّوا العُدّة؛ وتَوكّلوا على رَبّ العزّةِ والجلالِ، على التوجّهِ العازمِ - بحزمٍ وجزمٍ - ذاتيين صَوب شاطئ البحر القريب، ورُكوبِ أجواف ”السنابيك“ استعدادًا لاستهلالِ مَوسِمَ الغوص، وقد تَبعتهُتم صُفوفٌ مِن النساء والأطفال، مُودّعةً، ببكاءٍ مُوجِعٍ؛ ومُواسيةً بدُموعٍ سَاخنةٍ، في زِحامِ مَشهدٍ ”تَراتيجيٍّ - دِراميٍّ“ تنفطرُ لساعَتهِ مُهجٌ القلوب؛ وتتكسّر عِند شاطئهِ شَهقاتُ الآهاتِ المُتناميةِ المُتماهيةِ، مَع تكسّر ألسنةِ الأمواجِ ِالمُتراقصةِ احتفاءً، على حافّة صفحةِ الشاطئِ القريبِ…!

هذا، وفي سِياق الحديثِ عَن أهوالِ البحرِ المَسعُورةِ، ونبضِ غضبتهِ المُدمّرةِ، تعودُ بي مَشاهد ولَقطات ذِكرى الفاجعة الأليمة، لسنةِ ”الطبعةِ“ المنقولة والمُوثّقة، التي حَدَثت سنة 1344 للهجرةِ النبويةِ الشريفةِ، والتي شمِلت وعمّت، دُول سَاحل الخليج العربي، مِن شَماله إلى جَنوبه… إنّها ثورةُ زَمجَرة الإعصار الهائج المُدمّر، الذي ضَرَب، وخَرّب، وقلب مَا على سَطحِ البحر مِن إِنسانٍ وعَتادٍ؛ وقد خلّفَ وراءهُ أيتامًا وأراملَ ثكلَى؛ وأرسلَ سَحائب المَواجِع والآهات، لسُكّان الخليج قاطِبةً، ومِنها حاضرة واحة القطيفِ المنكُوبةِ…! ومٍن المؤلم حَقًا، أنّ المُؤرخين، عَدّوا جُملةَ الخَسائر نتيجة ذلك الإعصار المُهلِك، مٍن أهمّ عُموم الأحداثِ الصعبةِ المُزلزِلةِ، التي شهدَتها منطقةُ الخليج… ولكنّ رَحمةَ اللهِ الواسِعةِ، وعِنايتَه الأرحَب، قد رَبطتا - بإيمانٍ واحتسابٍ - مَنابت الحِلم؛ وألّفتا مَوارد الطُّمأنينة على قُلوبِ مَن فقدوا أعزّ أحبابِهم، بين عَشيةٍ وضُحاهَا...!

ومِثلما يسلبُ البحرُ مِن أيدي البشر غِلظةً، أعزّ أَملاكِهم الثمينةِ، وأحبّ مُكتسباتِهم النفيسةِ بَغتَةً، تتجلّى واسِع مَنافعِه السخيةِ؛ وتتسابق شاسِع تسهيلاتِه السّنِيةِ؛ لتقدّم لمَلَكةِ عقلِ الإنسانِ ”الشاطحةِ“ المُسترسلةِ أسلوب مِنهاجٍ راسخٍ، داعيًا للتدبّر؛ ومُؤسّسًا للتأمّل الذاتِيين، في رِحابِ عظمةِ مَلَكُوتِ الخالقِ الأوحَدِ؛ ليغُوص - المتدبر المتأمل - بفكره النيّر، في غَمراتِ أعماقِ قِيعانِ البحارِ والمحيطاتِ؛ ليَرَى ويَستخرِج مِنها، مَا يُسعِد، ويُبهِج مُستقبل حَياته؛ ويُحقّق فُصول أحلامِه الطمُوح، نحو عالمِ آفاقِ العلمِ، ومَناحِي مَناهل المعرفةِ، التي لَا تنتهِي حَلقاتُ سَلاسلِها المُتجدّدةِ، مَا دَامَت حَرارةُ الدّم تجرِي بحُرّيةٍ في عُمق شرايينه… فها هِي الناقلاتُ الضخمةُ العملاقةُ، تَمخر عُباب البحر… وكما امتلك واستمتع الإنسان بالأمسِ بمَا طابَ له استخراجه مِن لَآلئ ثمينةٍ، مِن أجواف قِيعانِه... ومَا يَزال يتغذّى إنسانُ هذا الكوكب المُعاصر، على مَا تحويه أجوافه مِن مُختلفِ أصنافِ الأسماكِ ذاتِ ”اللّحوم الطّرية“ وقد أغدق عليه مُتفضّلًا بثرواتٍ بِتروليةٍ جَمّةٍ… ولَا يزالُ يُناشِد ويُقارِعُ مَلكة عقلَ الإنسانِ النيرِ؛ لاستخرَاج الطاقاتِ الكامنةِ؛ واستثمَار الكثير مِن أسرارِه؛ واستدرَارِ عظيمِ خزائنهِ المكنونةِ…!

ولعلّ مَا يُلفت انتباه الناظرِ إلى صَفحةِ البحر المُتموّجة، مُنذُ الأزلِ، حَركةُ الأمواجِ المُتجدّدةِ، على السطح؛ ليتأمّلها العالِم الباحِث، في عُلومِِ الطبيعةِ، بتعمّقٍ واستقصاءٍ مِن مَنابع المعرفة العلمية؛ والاستفادةِ التقنيةِ مِنها لَاحقًا؛ وتَطوِيع وتَحوِيل مَسارِ زهوِ تلك الذبذباتِ الفيزيائيةِ المتناغِمةِ المُتواليةِ، بفِعلِ مَصدرِ حركةِ الرياحِ، إلى أصول طاقةٍ استهلاكيةٍ نفعيةٍ… هذا، ولَم تَغِب فِكرة طيّاتِ زخمِ تلك الذبذباتِ الطافيةِ على أسطُحِ البِحار والمُحيطات، عَن ذهنِ العلماء المُبدعِين، منذُ بداية القرن الثامن عشر الميلادي، بل توَلّوها بالدراسة والبحث، بغية استغلالِ أصولِ تلك الطاقةِ المتجددةِ لحركةِ الأمواجِ الدائبةِ، بمساعدةِ شبكةٍ مِن أحدثِ التوربيناتِ التِّقنِيةِ؛ لتُمكّن مِيكانيكيةَ الحركةِ القائمةِ لمدّ الأمواجِ، مِن إمكانيةِ الحصولِ على طاقةٍ مَلموسةٍ، تلبّي جُزءًا مِن حَاجةِ الإنسانِ اليَوميةِ المُتناميةِ، مِن استهلاكِ الطاقةِ الطبيعيةِ البديلةِ، بطرائقَ وأساليبَ وتقنياتٍ عِلميةٍ إقتصاديةٍ مُبتكرةٍ… وقد بدأ تدفّقُ سَيلِ الأبحاثِ والدراساتِ المَيدانيةِ، منذ أن بدأت جُذورُ الفكرةِ التخيُّليةِ، تداعبُ مُخيّلةَ الباحثِ المتأملِ؛ وترقَى - باستحسان واجتذاب - إلى ذائقةِ فِكرِه؛ لتحقيق سِلالَ التطلّعاتِ، وأَسفاطَ الأماني، لملكةِ عقلِ الإنسانِ الدائبِ النشطِ؛ وإرسائها، بكفاءةٍ واقتدارٍ، إلى حَيّز الوجُودِ المشهُودِ... ولعل قديمَ تأملاتِ الشاعرِ أبي البحر - رحمه الله تعالى - الذاتيةِ البِكرِ، في حَاضِر حِقبة عَصرِه المُتصرّمةِ، تَتمحْور وتَتحَوّر، بأمصالٍ دِماغيةٍ نشطةٍ مُعزِّزَة، إلى ابتكار واحدةٍ مِن أنجحِ التّقنياتِ العِلميةِ العَمليةِ؛ لخِدمةِ قافلةِ مَسيرةِ البشريةِ المُتقدّمةِ جَمعاء... ولله في مَن كرّمهُ وفضّلهُ، على سَائرِ خلقِه شُؤون…!