آخر تحديث: 28 / 3 / 2024م - 4:37 ص

أنتِ وحدكِ هنا

عبد الباري الدخيل *

كانت تظن أنه سيبكي، ستكسره عندما ترحل، وسيهزمه غيابها، لكنه قال بثبات: ”الأبواب صنعت للمغادرة“.

عرفها من خلف النقاب، كانت تلاحقه بعينيها، أحسَّ بالحسرة تعتصرها وهو يرحب بالجميع ما عداها، وقرأ الغيض في ملامحها وهي تراه يتحدث مع الدكتورة بروين حبيب، شاهدها تصوره بجوالها وهو يقف بجوار الشعراء قاسم حداد وجاسم الصحيح وحيدر العبدالله.

منذ أن دخل لمسرح «إثراء» لوّح له صديقه حسن ليخبره بمكان جلوسهم، مشى وكأنه متسابق يسير على البساط الأحمر ويتجه لمنصة التكريم، فعيونها لم تتركه حتى جلس، ورمقها بنظرة جعلها توجه نظرها لمحمد العباس يحاور أدونيس.

ولعل تهافت الحوار ساعة ذاك كان بسببها، وليس بجديد عليها، ففي عينيها من السحر ما يجعل أفكار العباس مشتتة، وفي روحها قدرة على محو ذاكرة ابن الشام، فيتهافت التهافت، ويسقط الفلاسفة رغم شموخ الفلسفة.

وعندما خرج برفقة الشاعر شوقي بزيع تقدمت بكل فجاجة وقاطعت حديثهم، وطلبت أن تصور مع الشاعر، لتقول له: ”أنا هنا، فإن كنت لم ترني فأنا أظهر نفسي“.

كانت قبل سنة الأقرب لقلبه، وكان صادقًا في حبه لها، لكنها مصابة بمرض التملك، وكان يرى نفسه ”طير حر“ لا يحب القيود ”حتى في معصميها“.

هددته بالرحيل إن لم يلتزم بقوانينها، فقدّم حريته ونحر قلبه على طريق الخلاص.

- إنني أحبك

- وأنا كذلك، وأنت تعرفين صدق حبي

- لكنني أغار عليك

- ممن تغارين؟

- من كل أحد، أخاف أن تختطفك إحداهن.

- قلبي مغلق ومفتاحه في حقيبتك.. فلماذا هذا القلق؟

- ”أنت ما تعرف كيد النسا“.

- أنا أعرف شيئًا واحدًا.. أني أحبك

- طيبتك وحنانك يجعلاني أخاف عليك من «هنّ»

- لا يوجد «هنّ» فقط «أنتِ»

- لماذا لا تريحني؟

- ماذا تريدين؟

- لا أراك تتحدث مع أي سيدة.

- حاضر

- ولا تنظر لهنّ

- حاضر

- ولا تفكر فيهنّ

- ما رأيك أن ترحلين وتتركيني مع «هنّ»

- أنت قاسي كالحجر ولا تحترم قلبي الذي أحبك

وتتكرر الحوارات الباردة، والتهديد بالرحيل، والوعيد بالخسران، ويكرر اعتذاره ووعده بأنه لا يرى سواها، لكنها لا تصدقه.

قبل شهر آيست منه ورحلت، وبقيت ذكرياتها، لكنه لم يستسلم، ولم يلحق بها، قال: ”اشتريت راحة بالي“.

في أمسية توقيع رواية عازفة البيكاديللي لواسيني الأعرج، كانت تتلفت باحثة عنه، لكنه أخفى وجهه بين قصص الأطفال، ثم لحقت به عندما رأته ينتظر المصعد، قالت له: لماذا أنت نحيف هكذا؟ سمعت أنك تعاني من مشكلة خفقان تعتريك.

صمت ولم يجبها، واصلت التحقيق: ما هذه الهالات حول عينيك؟

نظر لها وقال: لم ولن يكسرني رحيلك، اذهبي بعيدًا فلست ممن تظنين أنه ضعيف.

غادرت وهي تكاد تنفجر، حاول أن يمسكها لكن يده ارتعشت، وعينه غابت خلف دمعة خائنة.

متى يهزم الرجل؟ عندما يحاول أن يظهر شجاعته فتخونه دمعة.

حاول أن يناديها لكن فمه لم يساعده، همس بأنفاس متقطعة: ”ارجعي.. أنا كذّاب.. بعدني أحبك“.