مدخلية لفهم مستجدات البناء الزوجي
تجمع الكثير من الآراء على أن ظاهرة الطلاق بدأت في التوسع والاستفحال وهذه النسب المئوية تظهر حقيقة هذا التنامي؛ لتغدو هذه الحالات من الانفصال وكأنها ألغاز نحاول تفكيك خيوطها ووضع اليد على العوامل المستجدة المتسربة من بيننا دون أن نلتفت إلى بروزها على مشهد واقعنا الثقافي والاجتماعي، ولا نريد التحدث حول النظرة لأمر الطلاق بوضعه في خانة المقبول واللا مقبولية بقدر فهم العوامل المؤدية إليه، فبلا شك أن القرآن الكريم جعله كحل منطقي لحالة صعوبة العيش المشترك بين الزوجين وحدوث حالات الخلاف والمشاحنات المتكررة وبروز الكراهية على سطح علاقتهما، ومع كل المحاولات الإصلاحية التي يبذلها الحكماء لتقريب النفوس ووجهات النظر بين الزوجين والتي لم تفلح، كان «أو تسريح بإحسان» هو الحل المرضي للطرفين مع الحفاظ على كرامة كل واحد منهما وإبقاء الاحترام المتبادل متسيدا في علاقتهما وإن انفصلا، وفي المقابل هناك من الحالات التي تقع تحت نظر العقلاء المنصفين والتي لا يجدون في العلل المبداة من أحدهما أو كليهما مبررا ومسوغا للطلاق، فبلا شك هناك حالات تسرع وتهور وتصلب في المواقف تؤدي إلى الانفصال، وكان بالإمكان تلافيها وتجنب الطلاق لو أفسح المجال لإصلاح ذات البين من خلال إعطاء مهلة لتهدئة النفوس والاستماع لهما بعد فترة لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
ولكن المهم فيما نبحثه هو المستجدات في المشهدية الاجتماعية والثقافية والتي لا تراعى كمعايير ينبغي ملاحظتها عند عقد القران وانتخاب شريك الحياة، فبالأمس لم يكن هناك أي التفات للمستوى التعليمي والمعرفي والثقافي عند الزوج والزوجة وليس له أي أهمية تذكر، أما اليوم - فبكل صراحة ودقة - لم يعد عاملا ترفيا أو ضربا من المثالية الزائدة، بقدر ما هو معيار مهم لتحقيق التوافق والانسجام بين الزوجين وتأسيس أرضية للتفاهم حول المشكلات أو الخلافات التي تحدث بين الزوجين، فالثقافة الزوجية تضرب جذورها بقوة في علاقة الزوجين وترسيتها على أسس الاستقرار والاستمرار والتنعم بالراحة والهدوء النفسي، فتلك المفردات لهذه الثقافة لا توضع على الرفوف أو تلاك بالألسن في الندوات والمحاضرات بقدر ما يتم توظيفها على أرض الواقع والتعامل بها، فجدارية الاحترام والتفاهم والثقة المتبادلة وغيرها من الأسس الزوجية هي صمام الأمان لعلاقة الزوجين من الانزلاق إلى العناد والتزمت والعصبية وتجاهل مشاعر شريك الحياة وإهمالها.
وطريقة اختيار شريك الحياة والأسس المبتنية عليها ما زالت بعيدة عن معيار المصداقية والاختيار المناسب من قبل الشاب والفتاة، فالطريقة التقليدية من اختيار الأهل والوالدين بالخصوص من يمت لأحدهما بصلة قرابة أو صداقة مع إهمال مشاورة أحد الطرفين، ينجم عنها بعد ذلك المشاكل فيترامى الجميع المسئولية والسببية فيها، والمفترض هو تثقيف الشاب والفتاة بمعيار الاختيار الصائب والقريب من تفكيره ونظرته للحياة المستقبلية بجميع أبعادها، فيتحمل الشاب والفتاة حينئذ مسئولية الاختيار، وهذا لا يعني - بالطبع - تغييب مشورة الأهل ولكن مسئولية الاختيار في النهاية تقع على عاتقيهما.
كما أن ساحة التفاهم والحوار والعمل المشترك لم تكن موجودة سابقا، ولكنها اليوم عصب العلاقة المستقرة والناجحة في سبيل توفير عش آمن من التوترات والخلافات المستفحلة، وهذا لا يعني وأد أي خلاف بل هي الطريقة المثلى والمثمرة في احتواء أي مشكلة تطرأ بينهما؛ ليجلسا حول مائدة الحوار والاستماع للآخر وتقديم الحلول الممكنة والمرضية.
والوضع الوظيفي لكل من الزوج والزوجة والمساحة الوقتية والجهدية يستدعي منهما التفاهم والتشاور والتنازل المتبادل، وكذلك ما يستجد في حياتهما من حضانة وتربية وتعليم الأبناء أمام المستجدات تتطلب تفاهما بعيدا عن التطنيش من أحد الطرفين أو التعامل بأنانية.
والحقوق والقضايا المالية وتثبيتها دون زعل أو حساسية مفرطة يجنبنا الكثير من الخلافات المفضية إلى الاتهامات بالنهب، فهذه أطول آية قرآنية تدعونا إلى تثبيت الحقوق المالية وكتابتها؛ لئلا يكون هناك مجال للشكوك أو لتحريك للنفوس المريضة للاستيلاء على ما ليس له حق فيه، وكذلك مسألة البعثات التعليمية والوظيفية أو الدراسة في مناطق نائية للزوجين أو لأحدهما يتطلب حسن الاختيار وتفهما لظروف الآخر والتضحية المشتركة للوصول إلى غاياتهما.
?