آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 5:37 م

التقييم الذاتي ومعرفة النفس

كيف يمكن للإنسان أن يكتشف نفسه ومعالم شخصيته وما تحويه من خفايا إيجابية أو سلبية؛ ليكون فكرة دقيقة ينطلق من خلالها لتعزيز الجوانب الإيجابية ويرتقي بها لأعلى الدرجات، ومن ناحية أخرى يعالج الجوانب السلبية ويسد النقائص ويحل مكانها الصفات الجميلة والمحببة؟

البعض لا يولي هذا الأمر اهتماما أبدا ومرد ذلك إلى اعتقاده بأن الشخصية محددة مسبقا بمشخصاتها وصفاتها التي لا يمكن تغييرها، فمن ولد غضوبا أو بخيلا أو كذوبا وغيرها من الصفات سيبقى على ما هو عليه ولا يمكنه يوما أن يتحول إلى شخصية حسنة قد تخلى من تلك الصفات غير المقبولة، وهكذا فهم يرون أن الإنسان سيبقى على وتيرة واحدة وثابتة، وبالتالي فهم لا يؤمنون بالنظريات التربوية القائلة بأن السلوك الإنساني يخضع لعوامل متعددة تؤثر فيه - سلبا أو إيجابا - كالبيئة والعامل الوراثي.

والحقيقة أن التغير في الأفكار والسلوكيات ممكن وسهل وهذا الوجدان شاهد له ولا يعني أنه مجبور على شيء محدد، بل يمكنه التغير متى ما امتلك إرادة قوية واتخذ مسارا مختلفا، فالأفكار قناعات فكرية يمكن من خلال الحوار وتبادل وجهات النظر أن يغير فكرته، وكذلك بالنسبة للسلوك السيء فيحل مكانه ما يقابله من الصفات المحببة متى ما سار على الخطوات المطلوبة.

وهناك من لا يهتم بالتغيير لأنه ضعيف الإرادة ومهمل ولا يملك طموحا ولا يتطلع إلى التقدم والترقي في مستويات أعلى، ومثل هذه الشخصيات الخاملة قد يحمل بين جنبات نفسه فكرا حاذقا وصفات رائعة ولكنها كالشجرة التي لا يقدم لها الماء حتى يبست وماتت، وكذا النفس إن لم تتنقل من خطوة إلى أخرى وفق أهداف يعمل باتجاهها تاهت وترهلت وبقيت ملاصقة للقاع!!

وأما كيفية التعرف على النفس فهناك من يتخذ مواقف وكلمات من حوله مرآة يستكشف من خلالها معالم شخصيته، فتقييمه لنفسه يخضع لما يسمعه من ثناء أو سخط منه من أصدقائه، وهذا الشخص قد أضاع البوصلة في التقييم والتدقيق ولن يحصل على النتيجة الحقيقية والصادقة، وذلك أن الكثير من الناس يخضع في تقييماته لمواقف الآخرين للشخصنة ولمشاعره الخاصة منه، فلا يمدح من يحمل له مشاعر سلبية وكراهية وكذا يبعث بالمجاملات الزائدة لمن يحبه ويرتاح له، ولا ننسى أن هناك من يتقن التلون الاجتماعي فيرى أن الحفاظ على مصالحه الشخصية رهن بإسماع الآخرين ما يحبونه ولا يسمعهم الحقيقة لئلا يحدث شرخا في العلاقة معهم، والمحصلة أن تقييم المرء لنفسه عن طريق استماع رؤى من حوله خاطئة ومجانبة للحقيقة، كما أن النفس البشرية لها دواخلها وخفاياها التي لا يمكن للآخرين الوصول إليها، فتقييم الآخر - إن كان موضوعيا - يبقى في دائرة الظواهر من السلوكيات والمشاعر والتصرفات، وأما حقيقة تلك المشاعر ومصداقية المواقف فهي بعيدة المنال للتحقق منها، ولا يخفى أن هناك من يضع القناع على وجهه ويتلظى خلفه؛ ليخفي حقيقة قابعة في داخله لا يمكن الاطلاع عليها، ويمارس دور الممثل على خشبة المسرح فيعطي كل موقف ما يناسبه من الحزن والتألم «التراجيديا» أو غيره من الأحاسيس والكلمات المحببة لقلب الآخر، وهكذا نجد أن الاعتماد على التقييم الخارجي ليس بسديد.

وأما التقييم الداخلي والبحث بين جنبات النفس وما تحويه من ميول ومشاعر ونقاط قوة أو ضعف، فهو الطريق إلى الثبات على طريق التقدم والكمال، والقدرة على التحكم في النفس وضبط انفعالها والحصول على الاتزان الفكري والسلوكي، فالمنهج التربوي والتهذيبي لها يعني تعرفا ووعيا بالقدرات والإمكانيات والمهارات الفكرية والكلامية والسلوكية التي تجعل منه صاحب شخصية مرموقة، كما أن الرذائل الأخلاقية والعيوب والنقائص بعد التعرف عليها وإدراك النتائج الوخيمة المترتبة عليها، تمكنه من الانطلاق في فضاء إصلاح النفس والتخلص شيئا فشيئا من تبعاتها.

التقييم الذاتي يعني تسليط أدوات إدراكه الفكري وضبطه الانفعالي أمام المشاكل والمواقف المتوترة، فإنها محطات اختبار وكاشفة عن الزاد الأخلاقي والتربوي الذي تلقاه الفرد والبيئة المحيطة به، ولذا تجد العاقل دائم الفكر فيما يصدر منه من كلمات وسلوكيات ويعمل على معالجة جوانب الخلل والتقصير منها.

?