الإبداع وسيلة لتلبية اجتماعية
من النقاط المهمة في معالجة موضوع الثقافة، وحق المشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع: الإبداع في المجال الثقافي. إن الإبداع مطلب اجتماعي في جميع حقول وميادين الحياة، ولكن هذا المطلب يجب أن يكون وسيلة لتلبية حاجة اجتماعية أو غرض اجتماعي، ولذا فهو ليس هدفا في ذاته؛ فليس الفن هو من أجل الفن ذاته، وليست المعرفة نافعة، من أجل ذاتها، دون أن تتحول إلى سلوك، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، إن الإبداع والقلق الإبداعي لدى الآخر يرتبط، في قسم من معانيه، بأجواء المجتمع الرأسمالي الذي يوجه إليه الابداع - مهما كان نوعه - من أجل الحصول على الأرباح. إن الابداع مطلوب في المجال الثقافي، ولكن لا لذات الإبداع، وإنما من أجل خدمة الحاجة الاجتماعية، ولذا، لا بد للإبداع من أن يقوم على بعد التقويم والتهذيب، إذْ ما قيمة الابداع إذا كان يفتقد التقويم والتهذيب؟
وبعض الدول المتقدمة، كأوروبا الغربية وأمريكا، وبعض من دول العالم الثالث، اهتمت بهذا الأمر، وقامت بتشجيع مواطنيها على الإبداع في الإنتاج الفني، والأدبي، والتقاني: التكنولوجي، والعلمي؛ حيث رصدت الأموال الطائلة، وحمت حقوق المخترعين والمبدعين، المادية والمعنوية، وأنشأت أجهزة ومؤسسات تهتم بهذا المجال، وتقوم بمساعدة أبناء المجتمع عبر توفير إمكانات الإبداع، ودعوتهم إلى المشاركة في معالجة المعضلات التي تواجه البلاد؛ مما عزز دور المثقفين والمتعلمين وأصحاب الاختراعات التقنية في المجتمع، وأصبح لهم دور رئيسي في مصير البلاد.
وبلادنا تشهد طفرة في هذا المجال، من تشجيع الطاقات الوطنية المبدعة في مختلف المجالات والحقول، فرأينا الكثير من أبناء وطننا حصل على الجوائز والميداليات في منافسات عالمية على الصعيد العلمي والبحثي والذكاء الصناعي، والرياضي، وغيرها، وهذا لم يحدث لولا دعم القيادة العليا في بلادنا، وتشجيعها على المضي قدما للتطور والإنجاز. بينما كثير من دول العالم الثالث حصل العكس، إذ تم حرمان الكثيرين في المجتمع من المشاركة الفعلية في الحركة التطويرية والابداعية، وانتهكت حقوق المبدعين والمنتجين في مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية؛ لذلك، حدث نزيف الأدمغة في تلك الدول، وأدّى إلى هجرة الكثير من العقول المبدعة والمنتجة إلى الخارج، إذْ وفرّت لها الدول المضيفة الضمانات والحماية الحقوقية، وجميع الوسائل المادية والمعنوية.
ثم إن حق المشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع ذو صلة وثيقة بالحريات - عموماً - في المجتمع، وبحرية الثقافة بشكل خاص، فحق المشاركة الثقافية يصان ويحفظ حينما تصان الحرية دستورياً وقانونياً.
وإن أوجه التقدم العلمي، ومنجزاته، ما هي إلا أعمال ابداعية، وكما أن الإبداع في المجال الثقافي يحتاج إلى الحرية، كذلك فإن الإبداع في المجال الصناعي لا غنى له عن تلك أيضا، وليس غريبا إذا وجدنا أن الدول، والمجتمعات الحرة، هي التي كان التقدم العلمي والتقني من نصيبها، أما الدول والمجتمعات التابعة، والتي يؤطرها الاستبداد، فالتخلف كان نصيبها.
أما فيما يتعلق بحق الاستمتاع بالفنون عموماً، والفنون الثقافية على وجه الخصوص، فان هذا الحق لا ينبغي له أن يصطدم بالبعد الأخلاقي التقويمي للثقافة، والا تحولت الفنون، وحقوق الاستمتاع بها، إلى أدوات تخريب في بنية المجتمع، وكمثال على ذلك، أن المجتمعات الليبرالية الغربية حينما أتاحت حرية الاستمتاع بالفنون إلى الدرجة وبالصورة التي يخرج معها ذلك الاستمتاع - في قسم الفنون - عن الإطار الأخلاقي، والحدود التقويمية، أدى بها إلى الإصابة بالانحراف الأخلاقي، وتفاقم الفساد الاجتماعي وتفشي الجريمة.