وزارة السعادة القصوى
«توليفة عميقة لتاريخ عريق منحها نجومًا خمسة» قراءة في رواية
كيف لا ترتعد فرائصي وأنا أمام هذه الأحداث التاريخية التي ازدحمت بها هذه الملحمة الكبرى، لقد استدعيتُ القضايا الممزوجة بالصراعات فيها فلم تأتِ فرادى بل زاحمتني أفواجًا متتابعة.
هذه رواية وزارة السعادة القصوى للأديبة البوكريّة والمهندسة المعمارية أروندهاتي روي.
هي الرواية الثانية لها بعد حصولها على جائزة البوكر البريطانية عن روايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة».
وقد صدرت روايتها الثانية «وزارة السعادة القصوى» في لندن سنة 2017 وتلقفها المترجم الأستاذ أحمد الشافعي فنقلها للعربية بدار «الكتب خان» للنشر والتوزيع باللغة العربية.
وليس لي في هذا الصدد سوى الإشادة بالمترجم المبدع الذي اتقن توصيف المجتمع الهندي باحترافية في ترجمته الدقيقة للرواية وصياغته المتقنة لعباراتها وكلماتها.
لقد اهتمت الكاتبة بالبناء الهندسي لروايتها فأخرجتها من قالب الأحداث التاريخية المصفوفة الصمّاء وضمنتها توليفة ساحرة بنسب متوازنة من الأجناس الأدبية البرّاقة.
وفي إدارتها للصراعات المتعددة التي لفظتها شبه القارة الهنديّة ما يجعلك تعيش ضوضاء الطبقية والحزبية والنعرات الطائفية فشكّلت مادتها التاريخية بطريقة فنية مبدعة في تسلسلها التقليديّ وأجرتْ مسحا دقيقًا للمجتمع الهندي بجميع طوائفه فكان ذلك من باب الإغراء بالجري خلف ست مائة صفحةٍ لإنهائها ورقيّا لا إلكترونيّا.
من دلهي القديمة سجّلتُ دخولا لم أخرج منه إلا بعد خمسة أيامٍ زمنيّة.
في دلهي حيث دياجير الظلام شهدتُ ولادة مولودٍ حاك السواد حوله الغموض فلم يُسعف القابلة أن ترىجنسه فأطلقت كلماتها جزافا هو ولد «ذكر» وبعد بزوغ تجليات النهار اكتشفت والدته بأنه «هيجرا»
مولودهم آفتاب الشقي ينتقل بعد بضع سنين في رحلة للبحث عن هويته الجنسية فمن المشفى إلى الخواب جاه «بيت الأحلام» ليطلق على نفسه أنجم حيث تعيش في مأوى المخنثين «الهيجرات» وفي خوان جاه تعيش أنجم أنثى حبيسة جسم الذكر
«وفي الخوان جاه تتحرر الأرواح المقدّسة من الأجساد الخطأ»
وحيث حظيت الهيجرات بمكانة خاصة من المحبة والاحترام في الأساطير الهندوسية فقد حلّقت الكاتبة بخيال ينسج الأحداث حول أنجم التي عاشت سنوات طويلة في الخوان انتقلت على إثرها لتكمل مشوار الألم والحب في مقبرةٍ كانت مأوى لرفات عمتها «كوثر» وشقيقتها «بيبي عائشة» ووالديها
أصبحت أنجم تعيش في المقابر وقد توافد عليها بعض الزائرين ثم أصبح نزلها الذي أنشأته مركزا للهيجرات وفي هذا المكان الذي طالما كانت الشرطة تهددها بالطرد منه التقت بدياتشند الذي أطلق على نفسه اسم صدام حسين لإعجابه بنضال الرئيس العراقي آنذاك، بينما كانت أنجم تناديه بتشمار «المنبوذ عند الهندوس».
وإذا أردت أن تسمع صوتا يتهدرج بأمنية مُفزعة تنتظر المثول من يائس أضناه الألم سوف تنصت لألم السنين الذي تجاوز الأربعين بصوت أنجم وهي تفضي لصدام قائلة:
«لقد ولدتُ لأكون أمّا، انظر لي، يومًا ما سوف يمنحني الله طفلًا»
فأخذني ذلك لطفلتها اللقيطة زينب التي ربتها في الخوان وكانت تناديها بالفأرة.
لقد أحبّ صدام أنجم أكثر مما أحب شخصًا آخر، أحب قدرتها على إلقاء الشعر الأردي الذي كانت تردده مثل والدها، أحب أكلها وشرابها وكل مايتعلق بها فأخذ يقتفي أثرها فيكل شيءٍ.
مما لاشك فيه أن القارئ سوف ينجذب لحوار دياتشند مع أنجم فقد كانت روايته لأحداث مقتل والده على أيدي الهندوس محزنة جدا حيث ختم حديثه بعبارة تتقاطر ألما عندما قال: «كنتُ جزءا من الحشد الذي قتل والدي»
عندما تكون منفردا في مزية ما تشعرك بالقوة، فتعزفها على ألف ناي وأنت تشعر بألحانك المنفردة عن غيرك
وهذا ماكانت تنفرد فيه روي لقد أعطت قارئها عرضًا بانوراميا شاملا وأسهبت كثيرا في سرد الأحداث بتوصيف دقيق للمجتمع الهندي الزاخر بأجناسه المتعددة من الناس الذين قضوا نحبهم على أثر التقسيم بين الهند والباكستان وحرب كشمير ونضال الهند الثاني.
وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا ودينيا رأت الكاتبة أن المكان الوحيد الذي لا يثقل كاهل الهيجرات هو المقابر بينما كنت أنا أرى أنجم شبحًا قويّا لا تخشى أشباح الموتى. وقد يكون ذلك متفقًا مع احترام الهندوسية للأرواح المتحلّقة حول المقابر وليس للأجساد.
ومن المتناقضات التي تلمسها في أحداث الرواية أن المقابر التي تنتهي عندها الحياة تبدأ فيها حيوات جديدة ويشكلها قلم روي الفاتن بحلّة جديدة إذ يجعلها موطن حياة امتلأ بالناس والحيوانات، إنهم يألفون القبور ويجاورونها حتى غدا «نزل جنة الضيافة» _كما أسمته أنجم _ جمهورية للسعادة القصوى لها ولأصحابها.
وما أغنى عبارة الكاتبة بتناقض الحياة حين تقول:
«إياكم وقراءة روايتي على أمل أن تروا المقابر ملأى بالموتى، وبيوت العائلات يسكنها الأحياء»
لقد حققت الكاتبة المقتضى من الرواية التاريخية الذي انحصر في شقين:
الشقّ الأول:
الأمانة التاريخية إذ تجلّى واضحًا مفهوم الحقبة التاريخية واصفا الحروب الأهلية والوقائع الوحشية التي تزامنت على نحو «60» عاما من تاريخ شبه القارة الهنديّة.
أما الشق الثاني فقد كان يعالج:
الحاجة الجمالية وزخرفة الفن الروائي بالتصوير الدقيق فمن مناديل دلهي إلى معابد الهندوس، ثم يأتيك عبث الكاتبة بالمفردات في محفل جمع بين شعبية المفردة واستقراطيتها وصياغة ذلك بأسلوب سردي زاوج بين الأدب والتاريخ وانحنى نحو التداخل والتّشابك في الأحداث. وبرشاقة توظّف روي قدرتها لقطع علاقة التشابك التي خلقتها بمزج الأدب الماتع مرة أخرى بأحداث تاريخية معقدة يُقاس بالعقود والأجيال المتلاحقة
خرجتْ أثناءه المعذبة في الأرض «تلو».
في وقت يطفو العالم فوق موج صاخب، يقع في حب تلو الكشميري موسى وضابط المخابرات بيبلاب والصحفي ناجا
هربت تلو من هذا كلّه والتجأت للمقابر لتعيش مع أنجم
ساحرة تلك الأحداث التي جمعت بين امرأة وشبه امرأة - أن صدق التعبير - ربما كانت مشاعر الأمومة قد جمعتهما قبلًا، أضف إلى ذلك وقوف كلتاهما على المشاهد الدّمويّة التي تناثرت في ساحة جنتر منتربل في كل مكان.
فرضت عليّ الغزارة التاريخية وتشابك الأحداث قدرةً عالية من التّمحيص وفهم ماتصبو إليه روي؛ فالتاريخ عندها مستودع ثريّ بالأحداث والشخصيات الغريبة، ورواية يحضر فيها التاريخ بقوة شديدة مثل هذه الرواية لابد أن تجذب عاشق والتاريخ المتشعب.
لا أخفيكم أمرًا ما كان يحدث لي باستمرار إذ كلّما فقدتُ خيطًا رجعتُ لآخر يخرجني من ذلك التشابك ولم استسلم لتداخل تلك الخيوط فقد كنتُ أشعر بالمتعة في استقصاء الحدث وتتبع حياة أنجم المليئة بالصخب، شعرتُ بطرق أبواب موسوعة بل كنزًا نفيسًا وُضع في أسطوانة مُتضامة توفر الكثير من المعلومات التي لاغنى لمُتخصص عنها.
لقد أبصرتُ ارتباطَ الروايةِ بالتاريخ من جهة، وبالواقع من جهة أخرى.
وفي هيمنة التاريخ على العنصر الروائي أدهشتني بطولات الكاتبة في توظيفها له بأشكال متعددة تظهر فيه قوة الخيال والتوثيق التاريخي فتصبح الرواية ثكنة عسكرية ومسرحًا في الوقت ذاته ترقص فيه الشخوص بحركات ديناميكية ناقلة الأحداث بسلاسة عبر الأزمنة وهنا تكمن قيمة الأدب الحقيقية؛ فيجبر الخاطر ويكون صوت من لا صوت لهم.
وهنا تقوم روي بتلك المهمة بكل قوة، فتسلط الضوء على التاريخ المعاصر لأمة عريقة ودولة أنهك قواها الصراع وتستضيف أحداثا عالمية أخرى كانهيار أبراج التجارة العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية وإعدام صدام حسين وظهور بعض حركات المقاومة في بعض البلدان.
فأحجياتها معقدة تلتف حولها خيوط الصراعات المختلفة ويظهر أسلوب الكاتبة
مثل المجسم اللفظي لحياة الإنسان الأخلاقية والعقليّة، هو الفنون مُبوبة في عالم مكتظ مثل مجتمع الهند تسمع منه هزيم الرعود وصفير الأعاصير بل تنصت له متأملًا الذوق السّخي في بسط الأحداث، ويجذبك سحر الكلمات وانتقاؤها من الأوساط المتعددة
فهل تمتلك الرواية ما يجذب القارئ لقراءتها عندما يرى الكم الهائل من صفحاتها؟
لقد طرحت الكاتبة أفكارًا رائدة من شأنها إثراء المعلومات لدى القارئ في إطار ضمني يعزز فهم المجتمع الهندي باختلاف أطيافه فلم أجد تلك الصعوبة في فهم الارتباط بالأحداث والتفاعل مع رسالة الكاتبة التي أرادت إيصالها لنا فلم تكن رواية رومانسية وغاب التفكير المنطقي عن أجوائها، وعلى الرغم من تعدد القضايا المطروحة إلا أنها زخرت بعبارات في منتهى الألم مثل:
«أرادت اقتلاع نجوم السماء وطحنها وإحالتها ترياقًا يهبها نهدين وشعرا طويلا»
هل تعرف لم خلق الله الهجيرات؟
كانت تجربة قرر الرب أن يخلق شيئًا، كائنًا حيًا، بلا قدرة على السعادة فخلقنا.
لقد حاولتُ إحصاء نقاط القوة لذلك القلم الفاتن فأخفقتُ قبل أنْ يَرْتَدَّ إِلَيّ طَرْفي