آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الإمام علي (ع) رائد العدالة الاجتماعية

عبد الرزاق الكوي

في 26 نوفمبر من عام 2007 قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبار العشرين من فبراير من كل عام يوما دوليا للعدالة الاجتماعية بشكل رسمي لتحقيق العدالة، حيث تقدر منظمة العمل الدولية أن أكثر من ملياري شخص يعيشون في أوضاع غير سوية متأثرة بالنزاعات، منهم أكثر من 400 مليون تتراوح أعمارهم بين 15 و29 سنة، والأمور أخذت بالاتساع حيث يشعرون بغياب العدالة الاجتماعية في حياتهم اليومية بدون حياة كريمة تتوفر فيها أبسط الحقوق، يسود فيها الفقر والفاقة في ظل انفاق متسارع ومهول على العتاد العسكري واشعال الحروب المفتعلة لتزيد الحالة سوءا وتدهور، فأضحت اليوم أغلب بلاد العالم بعيدة عن تحقق العدالة الاجتماعية، رغم أنها من الأساسيات الضرورية والمكفولة دستوريا، ولهذا حظى مفهوم العدالة الاجتماعية خلال السنوات المتأخرة بقدر كبير من الأهمية كما استحوذ على حيز كبير من الجدل على المستوى الفكري والتنظيري على النطاق الدولي، فإحياء يوم العدالة الاجتماعية من أبسط مفاهيمه يعبر لغد أفضل وحياة أسمى ومعاني أنبل، وإزالة الحواجز التي تحد من نشر العدالة الاجتماعية.

فغياب العدالة في حياة البشرية يحل محله الظلم وهو سبب لكل شقاء ومنبع لأكثر الشرور وسبب لانتشار الانحراف وأساس لترسيخ الرذائل وانتشار لأسوء الفواحش، وجدر التخلف الحضاري ودمار المجتمعات، فالظلم هو عبارة عن سلب الحقوق المشروعة والمكفولة وانتهاكها بدون وازع ديني أو أخلاقي أو التزام بمواثيق اقرت على نطاق دولي، فالإنسان في العصر الحالي ينشد ضالته أن يعيش بسلام وطمأنينة في أقل قدر من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والصحية والتعليمية والسكنية، وبدون هذه الأساسيات الضرورية لا توجد حياة يمكن أن ترتقي إلى حياة كريمة ينعم المجتمع بأقل درجات السعادة والأمن والاستقرار، الذي هي قوام المجتمع المتحضر. فالمجتمعات السوية والأمم المتقدمة والنفوس السليمة مفطورة على التوق للعدل والسعي للمساواة وبغض الظلم واستنكاره، فالعدالة الاجتماعية لها دور رئيس في حياة كريمة في جميع ارتباطات الإنسان في حياته المعيشية يحصل كل فرد على حقه وفرصتها بدون منه من أحد وبدون تفرقة من ناحية عرق أو لون أو طبقة اجتماعية أو مذهب وعلى جميع الأصعدة، ضمن الدساتير والأعراف والمواثيق الدولية. في نظام وحقوق تدلل فيها جميع الفوارق الغير مشروعة بين طبقات المجتمع الواحد، أن يعمل بها كواقع على الأرض وليس مخطوطات ومواثيق كتبت وتعلق على أرفف المكاتبات الدولية، وتقام الاحتفالات السنوية لإحياء اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، تتسابق فيه وسائل الاعلام المقروءة والمرئية في حين يعيش المليارات من الناس تحت ويلات الحروب والفقر والمظلومية وفتك الأمراض وانتشار الأمية والتخلف وازدياد الاجرام والإرهاب وانتشار المخدرات، فالعدالة الاجتماعية ليس مكرمة من محفل دولي وليس عطاء من هيئة عالمية وليس شرهه من سياسي بل حق مقدس لا يجوز لاحد ان يسلبه مهما اعطي من قوة ان يسلب حق ضعيف او تكالبت عليه الظروف، بل له حقوقه المكفولة، فليس اشد وقعا على الانسان كهضم حقوقه وظلمه وانتهاك كرامته وهو اساس تراجع الأمم ومصدر حصول النكبات، فالعدالة تنتهك على النطاق العالمي تتقلص فيه الفجوة بين الطبقات الاجتماعية اصبح الفرد مهموما بتوفير أدنى مستلزماته الحياتية ما يبقيه حيا من خطر الجوع وفتك الأمراض والعيش في الملاجئ وعدابات التشريد ومتاهات الحروب وظلم الانسان لاخيه الانسان، يعيش اخطر مراحل التفكك الذي لم يشهدها العالم من قبل، فالبطالة والفساد المتفشي على النطاق العالمي بشكل عام والإسلامي بشكل خاص سببا رئيسيا في خلق واقع مأساوي ومجتمع متخلف يعاني من الأمراض النفسية والكآبة والقلق واتجاهه للعدوانية والمسارات الاخرى المنحرفة وهذا ما يشكل خطر على المجتمعات الحديثة واستقرارها، فاختلاف ميزان العدالة في العصر الحديث يؤدي الى ما نشاهده من إضرابات في العالم.

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.

فالإسلام مجد وقدس وبين فضائل ومآثر العدل وجعله من اهم اهتماماتها حيث جعل اساس لمشروعية حياة كريمة بين سائر البشر في حياتهم العملية، حتى ينعم الجميع بالسلام والاطمئنان والأمن والرخاء والحياة المستقرة واستعمال ما تلطف به سبحانه وتعالى من نعم وخيرات من خلقه، ولأهميته العدل ارسل الله تعالى الأنبياء والرسل لإرساء هذا المفهوم والعمل به.

قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ …

فهذا الامام علي القران الناطق رائد العدالة الانسانية جسدت حياته الاسلام فهو تلميذ الرسالة البار تعلم من النبي صلى الله عليه واله، فكانت سيرته المباركة نبراسا لقيم السماء، وكان المجسد لروح العدالة الاجتماعية بكل جوانبها وتشعباتها، لمعرفته انها اساس بناء المجتمعات، وان غياب هذا الركن المهم يشكل خطرا وتدهورا لكل مجتمع يبتلى بفقد العدالة الاجتماعية.

فقد سبق الامام علي الأمم المتحدة والثورة الفرنسية التي دعت وحاولت إلغاء الفورارق بين أفراد المجتمع الواحد، فقد جاء قرار كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة التاريخي عام 2002 حيث صدر عن لجنة حقوق الانسان برئاسته، استند فيها الى وثائق تاريخية ودراسات معمقة مأخوذة من سيرة الامام في إدارة شؤون الحكم وأقواله بهذا الخصوص، صدرت دراسة من 160 صفحة، دعت فيها الأمم المتحدة حكام العالم إلى الاقتداء بنهج الامام في الحكم وإدارة شؤون الرعية.

الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان قال: «قول علي ابن أبي طالب: يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية».

وأُنادي الحقّ في أعلامه وعليٌّ عَلَمُ الحقّ الأشمّ

فهو للظالم رعدٌ قاصفٌ وهو للمظلوم فينا معتصمْ

وهو للعدلِ حِمَىً قد صانه خُلُقٌ فَذُّ وسيفٌ و وقَلَمْ

مَنْ لأوطانٍ بها العسف طغى ولأرضٍ فوقها الفقرُ جثَمْ

غير نهجٍٍ عادلٍ في حكمته يرفع الحيفَ إذا الحيف حكَمْ

ليس غريبا أن يكون الامام علي رجل العدالة ومثال وقدوة حسنة في إدارة شؤون الدولة والأمة، ومعلما من اجل ارساء حقوق الانسان، وأفضل نموذج للحاكم العادل والدولة الصالحة، فالعالم كم هو بحاجة ان يدرس ويتبع خطى الامام علي من اجل ارساء العدالة في واقع عالمي تتزايد فيه المظلومية وانتهاك الحقوق. فقد كانت سني خلافته المباركة أربعة سنوات ونصف مع الحروب التي شنت من اجل محاربته وقتل تؤججه الإصلاحي في المجتمع، كان واضح الرؤيا واضعا نصب عينيه رسم حياة كريمة من اجل سعادة الانسان واعطاءه حقه الذي كفله له الدين، ان يجعل لكل فرد من ابناء الأمة قيمة عليا تسخر من اجله كل الإمكانيات واختيار القيادة المثلى على أسس الكفاءة والنزاهة من اجل الإمساك بمقاليد الدولة وخدمة المجتمع بالعدل والمساواة، لا فرق بين عربي وغير عربي، أبيض البشرة او غير ذلك، مسلم او غير مسلم ان اكرمكم عند الله اتقاكم وليس من له وجاهة او مكانة او رأس مال، كان مصداقا بارزا لأية ﴿كونوا قوامين بالقسط، لم يتراجع قيد أنمله ولم يكل أو يساوم من اجل مصالح دنيوية، كان يعيش كأضعف ابناء المجتمع يأكل كما يأكل الفقراء ويعيش عيش المساكين خشية ان يأكل فيشبع في موطن فيه من لا عهد لهم بالشبع، وان يلبس ثوبا ناعما وفي ابناء الشعب من يرتدي خشن الثياب، وان يكتنز الأموال، وفي الناس فقرا وحاجة، يقول ااقنع من نفسي بان يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم مكاره الدهر، فعاش بين الفقراء وحارب الفقر وجالس واستمع للمحرومين، بقى مخلصا لمبدأه صامدا بوجه الباطل متحملا للفتن مدافع قويا عن الحق حتى وان كلفه حياته.

يقول المؤرخ المعروف أبن الأثير «إنّ زهده وعدله لا يمكن استقصاؤهما، وماذا يقول القائل في عدل خليفةٍ يجد في مالٍ جاءه من أصفهان رغيفاً فيقسِّمه أجزاء كما قسّم المال، ويجعل على كل جزء جزءً، ويساوي بين الناس في العطاء، ويأخذ كأحدهم»،

عندما ولى مالك الاشتر الحكم في مصر. عهد اليه في رسالة حريا ان تكتب بماء الذهب وان يطلع على هذا الموروث الجبار والفكر العميق في كيفية إدارة الدولة وسياسة الحكومة ومراعاة حقوق الشعب وفي نظريات الإسلام في الحاكم والحكومة ومناهج الدين وفي الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحرب والإدارة والأُمور العبادية والقضائية.

«اوأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك! وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم»

قال الامام : «أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً، وَإِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ، لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ، بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَة»

استلم الخلافة بعد ضغط من الصحابة في ظروف بالغة الخطورة والتعقيد على شتى الأصعدة، مما صعب على المجتمع تقبل وجهة نظر الامام لبناء الدولة العادلة وتطبيق رؤاه، فعمل جاهدا بما يمليه عليه واجبه في حفظ الاسلام وتطبيق تعاليمه على ارض الواقع، وترسيخ القيم التي انتهكت فقام بعمل دؤوب مدركا لاهمية ما تتعرض له الامه من مخاطر وانزلاق الى الهاوية، فقد عانت الأمة من التمييز في العطاء مما أسست لنشؤ التطبيقية وتزايد الحرمان لدى فئات اخرى، فتعامل مع الجميع على مبدأ المساواة في جميع الشؤون الحياتية المكفولة للفرد في ظل الشريعة الاسلامية حيث كان يساوي نفسه في الحقوق العامة مع الضعفاء والفقراء لا فضل لأبيض على اسود ولا عربي على اعجمي وعاش حياته في مستوى معيشتهم. حارب الطبقية مما فتح عليه أبواب المؤمرات.

قال عليه السلام:

«.. والله لئن ابيت على حسك السعدان مسهدا واجر في الاغلال مصفدا احب الي من ان القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصبا لشئ من الحطام.. والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاكها على ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وان دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، مالعلي، ونعيم يفنى ولذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين».

ويقول عليه السلام :

«أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ»

حمل رسالة مشرفة للعالم الى بناء أسس ودعائم الدولة المتحضرة بفكره الثاقب ورؤاه الصادقة مع ما تعرض له من فتن وحروب من اجل قتل هذا التطلع في مهده من اصحاب المصالح الدنيوية،

قال :

«فَو اللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً، وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً».

شكل الامام علي نظرته الى إدارة أمور الخلافة نموذج يحتدى في مقارعة الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة والكلمة بالكلمة يعيش من يخالفه الرأي بأمن وسلام يفتح باب الحوار ويدعو له في حق مكفول بالتعبير عن وجهات المختلفة، في ظل التمسك بثوابت الدين فقد كان يضع حرية الرأي نصب عينيه من اجل تحقيق إنسانية الانسان، لم يساوم يوما على مبدأ من مبادئه، ولم يلين عن موقف يخالف الدين مع ما تكالبت عليه الظروف من حدب وصوب.

قال :

«فلا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ»

وقال :

«وايم الله لانصفن المظلوم من ظالمه ولاقودن الظالم بخزامته حتى اورده منهل الحق وان كان كارها..».

يقول الكاتب المسيحي جورج جرداق :

«إنَّ عليّا المتّصل عقلُه ووجدانُه بجوهرِ الوجود الإنساني كله ليس لزمان أو لمكان، بل لكلّ زمان ومكان، فهو ليس لقوم ولا لدين، هو للناسِ أجمعين... إنه المنارةُ المشرقةُ على مفارق العصور».

فالبشرية اليوم تحتاج على نطاق عالمي وإقليمي وفردي أن يتمثلوا هذا النور المبين والصراط العادل في جميع علاقاتهم تحت ظل جعل العدالة الاجتماعية هدف ينعكس على مجمل السلوك على الواقع، من أجل النجاة من براثن الظلم، من ظلم أنفسنا ومن حولنا وصولا إلى ارساء العدالة على النطاق العالمي.