آخر تحديث: 15 / 5 / 2025م - 8:35 م

الجهل بالمسافة الفاصلة!

الدكتور محمد المسعود

هناك دائمًا سوء التقدير الذي يسبق الكارثة، أو يسبق الموت، أو يسبق السقوط الأخير. وبعض الموت يقع بسبب تدبير ضحيته، ويأتي الحتف من سوء التدبير، وسوء الفهم، والجهل بالمسافة الفاصلة بين الموت والحياة. الجهل بالمسافة جعل الصحاري تأكل الموتى عطشًا فوق ترابها؛ قتلهم ظمأ سوء التقدير لمسافة الوصول والطيّ والبلاغ.

وهناك قلوب تباعدت عنا في إقبالها وحنانها وعطفها، لأننا تأخرنا في تقديم ما هي بحاجة إليه من حب، أو اعتذار صادق، أو اهتمام مخلص.

ولو أحسنا التقدير، لوجدنا أن القليل من هذا أو ذاك في وقته أخصب من الكثير الكثير في غير أوانه؛ كالتعبير عن الحب على رخامة قبر، كالعطية وقد زالت الحاجة إليها، كالقرب وقد استغلق القلب بالإعراض.

إن للمشاعر جنيًا وقطفًا؛ فإن أُهملت، يسرع إليها ما يُسرع للثمرة من التغيّر والفساد.

في حياتنا، يؤلمنا جميعًا أن نشعر بالحب في وقت لم نعد قادرين فيه على القبض عليه، أو العيش فيه، أو حتى الفرح به، لأنه جاء في زمان لم يبقَ في قلوبنا رجاء فيه، ولا رغبة له. وهذا وجع لا يرتفع عن صاحبه!

في حياتنا جميعًا، يؤلمنا انثيال الثناء علينا ونحن نغالب الصمم، والضعف، والعجز، والشعور المزمن ببرودة الوحدة. هذا الثناء، بالذات، فيه حسّ العظم البارد: لا يُؤكل، ولا يدفئ الجسد، ولا يترك للوارث.

يؤلمنا أن يأتي المال حين نفقد القدرة على الاستمتاع به.

ويؤلمنا أن يأتي المال حين نفقد من كنا طيلة الوقت نجمعه من أجله. يؤلمنا جميعًا أن يأتي المال وحده، بعد أن نستيقن أن ما ناله وانتزعه منا أغلى قيمةً مما تركه في أيدينا، سيما ممن قايضه بنفسه، فقطع من أجله رحمه، وانقلبت بسببه فطرته، وانطمس قلبه، وأظلمت روحه.

غير قليل من قتله خيبة الرجاء فيمن يحب، وفيمن يثق، وفيمن كان يؤثره على نفسه.

غير قليل من قتله الخذلان، والغدر. وهذا كله قليل من كثير في جموح المشاعر والعقل والنفس.

وحينئذ نعي الحكمة الوجودية المفردة في الوجود بتمامه، وفي الحياة كلها؛ حين نلتقي بحسن التقدير لله، والتدبير لشأنك كله، وحياتك بتمام تفاصيلها: بمشاعرك المتقابلة، بلحظة الرغبة، ولحظة الرهبة، بمشاعر الخوف، والضعف، والحب، والكره، والرجاء، واليأس، وفي المآل والمصير، من أول نفس يضطرب الجسد بالحياة منه، إلى الحشرجة الأخيرة بخروج الروح.

وحينئذ نرى الله اللطيف الخبير، الذي يذكّرك على الدوام برعايته، وعطاياه، وحسن تدبيره.

ولو كنت له ناسياً، وعنه معرضًا، وعلى غيره مقبلًا.

ولكنها رحمة الله الواسعة بنا، ورأفته علينا، وعلى سوء تقديرنا فيما نفعل، وفيما نرى، وفيما ندّعيه من علم، وفيما نتوهّمه في أنفسنا من معرفة.