آخر تحديث: 18 / 4 / 2024م - 7:11 م

صنع القرار والبحث عن بديل

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

الحديث عن صنع القرار هو بحث عن وجود مجموعة من الخيارات المتاحة، يتم التركيز على الأفضل بينها. والأفضل يعني الأقل خسارة، والأكثر مكسباً. وحين تنعدم الخيارات، تكون الغلبة لقانون الفعل ورد الفعل، وما عبر عنه المؤرخ البريطاني توينبي بقانون التحدي والاستجابة.

أدبيات صنع القرار، في الأغلب، غربية وأمريكية بشكل خاص، ومصدرها سياسيون وأكاديميون قريبون من دائرة صنع القرار، تعاملوا مع أزمات دولية في حقبة الحرب الباردة، كالحرب الكورية وأزمة الصواريخ الكوبية، والحرب التي شنتها أمريكا بالهند الصينية. وذلك يعني أن هذه الأدبيات تعاملت مع أزمات بعينها، وليس لها شأن بالعلاقات الدولية. كما أنها لم تتناول الشأن الداخلي، كقضايا الاقتصاد والتنمية وحماية البيئة. بمعنى آخر، أدبيات صنع القرار، تمت ضمن نطاق ضيق ومحدود، وليس له علاقة بالمألوف، بل كرست للتعامل مع نقيضه.

وعلى هذا الأساس، لا يزال الفقر، في موضوع أدبيات صنع القرار، هو السائد، مع والوعي بأهمية سد الفراغ، الناتج عن عدم وجود البديل. وهذا القول، ينسحب للأسف حتى على واقع المنظمات الدولية كمنظمة الأمم المتحدة، والمنظمات التي تقع تحت مظلتها، من غير استثناء. فمجلس الأمن الدولي على سبيل المثال، لا يزال محكوماً، حتى يومنا هذا بالظرف الذي تأسس فيه، وهو نتائج الحرب العالمية الثانية، رغم أن الكثير من حقائق توازنات القوة، قد تغير بشكل دراماتيكي منذ ذلك التاريخ، وباتت الحاجة ملحّة لتغيير اللوائح والهياكل، بناء على حقائق القوة الجديدة.

إن الكثير من القرارات الدولية، تستند إلى الأعراف والتقاليد، واستنساخ اتفاقيات سبق التوصل لها بين الدول الغربية. وذلك يشمل قضايا المياه والأنهار والحدود، وليس هناك ضوابط قانونية محددة تحكمها. وهذا الفقر في أدبيات صنع القرار، لدى صانع القرار الأممي، إضافة إلى عوامل أخرى أدى إلى إشكالات كبيرة، وأعاق حركة المنظمات الدولية، ومنعها من تحقيق الغايات التي تأسست من أجلها.

الأمر في بقية دول الغرب، ومن ضمنها الدول الأوروبية، لا يختلف كثيراً. لقد أناخت نتائج الحرب العالمية الثانية، بثقلها على هذه البلدان، وجعلت منها تابعاً ليّناً، للولايات المتحدة، بحيث غابت سياساتها الخاصة. وذلك ينسحب على معظم الدول الغربية، باستثناء فرنسا، وفي مرحلة محددة وضيقة جداً، هي المرحلة الديغولية.

الأمر في بلدان العالم الثالث، ومن ضمنه الوطن العربي أسوأ بكثير. فهذه البلدان لا تمتلك ترف التفكير في صنع القرار، وتدار في أغلبيتها بقوانين بطركية، بعيدة عن هذا الزمن الكوني، يعشش الفساد في كل أروقتها، والفرمانات تصدر من الأبراج العالية، من دون تماس مباشر مع الواقع. لكن ذلك لن يكون حالة مستدامة، مع التطورات العلمية الهائلة التي تجري من حولنا، ومع تحول العالم بأسره إلى قرية واحدة، بسبب ثورة الاتصالات، والتسارع في صناعة أجهزة وأدوات الإنترنت.

إن هذه التطورات تفرض على الجميع أن يعيشوا زمناً واحداً، وذلك أمر لا مفر منه. وهذه التطورات ستعيد الاعتبار حتما لضرورة سد الفراغ، في أدبيات صنع القرار وتطويرها، لتتجاوز مجرد التعامل مع الأزمات الدولية، ولتأخذ مداها الواسع بشكل رأسي وأفقي. رأسي بحيث تعكس طبيعة العلاقة بين البناء الفوقي والمجتمعات الإنسانية، التي تنضوي معه. وأفقي في ما يشمل العلاقات بين الدول. وكلاهما يحتاج إلى وقفة تفصيل رحبة.

أدبيات صنع القرار، ينبغي أن ترتقي إلى مناقشة شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأن تتناول قضايا محلية كالصناعة والزراعية والصحة والتعليم، وقضايا البيئة، والأوبئة الطارئة، والمشاكل الأخرى التي لا تزال مستعصية. كما ينبغي أن تناقش العلاقة بين الدول، وعناصر التطور فيها. وما هي معايير الصداقة والخصومة معها.

وفي كل الأحوال، فإن أدبيات صنع القرار، ينبغي أن تنطلق من المصالح الوطنية والقومية، ولا تكون على حسابها. وفي العلاقات بين الدول ليس هناك صداقات دائمة بل مصالح مشتركة. والقول هذا يحمل نقيضه، فليس هناك عداوات دائمة بل مصالح تحكم اتجاهاتها.

وفي الوطن العربي، ينبغي التمييز عند صناعة القرار، بين ما هو سياسي ومؤقت، وبين مصالح ثابتة بين أبناء الأمة. وهذا يعني تحييد الصراعات البينية، وغلبة المصالح الوطنية والقومية، لما فيه مصلحة الأمة وقوتها ومنعتها.

أدبيات صنع القرار، ينبغي أن تتجاوز بشكل عملي الأزمات، ووضعها الراهن الذي يقتصر على التعامل مع ما هو سلبي في العلاقات الدولية، لتشمل ما هو إيجابي، فتكون أكثر شمولية ورحابة.